الاثنين، 15 سبتمبر 2008

القطار

القطــــار*
قصة قصيرة

كان شيخا مهيباً جليلاً كبيراً فى سنه ومقامه. أعد عدته لسفره السنوي، فذهب إلى محطة القطار في الموعد المحدد، وحاول الركوب في القطار المزدحم زحاماً شديدًا، وبصعوبة صعد إلى العربة الأولى وأراد أن يجد له مكاناً ليستريح فيه، فوجدها مكتظة بشباب من مختلف الأعمار، كل قد شغلته لعبة ما، فهذا يلعب بهاتفه المحمول، وتلك أمسكت بجهاز الكمبيوتر المحمول واستغرقت فى لعبة ما، وهؤلاء يلعبون بالورق (الكوتشينة)، ومجموعة أخرى تلعب بالنرد (الطاولة)، ومجموعة تضع سماعات "الآى بود" وتتراقص على نغمات مبهمة ... وقف الشيخ حائراً وراجياً أن ينظر إليه أحدهم ويرحم شيخوخته، ولكن أحداً لم يعره اهتماماً فتقدم هو إلى أحدهم وقال: "يا بني، هل لى أن تجلسني معكم حتى يصل القطار إلى محطته الأخيرة؟" فقال له الشاب- دون أن ينظر إليه: " أنا مشغول كما ترى بهذه الجيم " Game" فهى جيم جامده طحن ، ولا أستطيع ترك مكانى"... تركه الشيخ وذهب إلى الفتاة الجالسة في المقعد الأمامي، فقالت مثل ذلك، وهكذا مع كل المجموعات المتناثرة من الشباب.

حزن الشيخ وتركهم وذهب إلى العربة الثانية، فوجد فيها مجموعة من أصحاب الأعمال يبدو عليهم حسن الهيئة والهندام والانشغال الشديد، فهذا منكب على مجموعة من الملفات يقرأها ويكتب ملاحظات على هوامش الصفحات، وذاك منغمس داخل حاسوبه المحمول يجمع ويطرح ويضرب أرقاماً كثيرة على برنامجه المفضل " الإكسيل "، وتلك السيدة أمسكت بآلة حاسبة ومجموعة من الأوراق تحسب أشياء وتكتبها على أوراقها، وهذا يبدو أنه مع شخص أجنبى يحادثه على هاتفه المحمول، والمكالمة ساخنة جداً ... وقف الشيخ حائراً وراجياً أن ينظر أحدهم إليه ويرحم شيخوخته، ولكن مرة أخرى أحداً لم يعره اهتماماً، فاستجمع الشيخ قواه وتقدم إلى أحدهم وقال: " يا سيدي، هل لى أن تجلسنى بجوارك أو تترك لى مكانك وتجلس بجوار أحد زملائك حتى يصل القطار إلى محطته الأخيرة، فأنا كما ترى شيخ كبير؟" لم ينظر الرجل المنهمك فى حاسوبه إلى الشيخ ولكنه أجابه بنفس إجابة الشاب فى العربة السابقة: "أنا كما ترى مشغول جداً ولا أستطيع ترك مكانى، آسف ياعم الشيخ "بيزنس إز تاف" ولا يوجد شيء يأتي بالساهل."

حزن الشيخ ولكنه لم يفقد الأمل، حاول مع غيره وغيره، ولكن كانت إجاباتهم كلها واحدة، فتركهم الشيخ وقد ازداد كمده وحزنه وذهب إلى العربة الثالثة، فوجد فيها مجموعة من الموظفين والعمال يتجاذبون أطراف الحديث – الذى ظنه الشيخ صريخاً أو عراكاً، ولكنه اكتشف بعد ذلك أنه مجرد حوار عن هموم الحياة، فهذا يشكو دخول شهر رمضان مع المدراس مع العيد أى ثلاث خبطات فى الرأس مرة واحدة، وتلك تشكو مشاكل الخبز والطوابير الطويلة والزحام على المخابز، وذاك يتكلم بأسى وحزن عميق على العبَارة التى غرقت وغرق معها المئات ورغم ذلك برأت المحكمة صاحبها، وآخر يتكلم عن أكياس الدم الفاسد والتى أخذ فيها صاحبها أيضا حكماً بالبراءة، ومجموعة أخرى تتناقش وتفسر وتفتي في قانون المرور الجديد وأزمة الزحام القاتل فى شوارع القاهرة، وغيرهم يتحدثون عن غلاء المعيشة وشظف العيش وأزمة الإسكان ... أحس الشيخ بالدوار من كثرة المشكلات وتعقيداتها وأراد أن يجلس ليستريح، فذهب إلى أحدهم وقد توسم فيه خيراً طالباً الجلوس، ولكنه فوجىء برده الذى ذكّره بالردود السابقة التى سمعها : "نحن مشغولون ومطحونون كما ترى ولا أحد يستطيع أن يترك مكانه بعد أن حصل عليه بشق الأنفس لا لك ولا لغيرك ..."

حزن الشيخ مرة أخرى وشعر بغصة في حلقه، فلا أحد يراعي شيخوخته ولا أحد يراعي مهابته وعلو مقامه، فتركهم وذهب إلى العربة الرابعة، فوجد فيها أزواجاً حديثى عهد بزواجهم يخططون لحياتهم ويبنون آمالهم على أحلامهم ويعيشون واقعهم بأحلام آمالهم، وهنا حاول الشيخ لفت أنظارهم إلى واقع آخر لم يكترثوا له، وهو وجوده بينهم ، ولكن أحداً لم يعره اهتماماً، فقال لزوجين منهم: هلا أجلستمونى هنا حتى يصل القطار إلى محطته النهائية ولن أثقل عليكما، فرد عليه الزوج: "نأسف يامولانا فنحن مشغولون كما ترى بمستقبلنا وآحلامنا فيه، كما أننا نريد أن نستمتع بوقتنا معاً فنحن كما ترى عرسان جدد"، و حاول الشيخ مع الأزواج الآخرين ولكن حدث نفس الشىء معهم جميعاً...

تركهم الشيخ حزيناً مشفقاً على حالهم، وذهب إلى العربة الخامسة، فوجد فيها أزواج وزوجات، وأسر وعائلات، يتلاومون ويتعاركون ويكاد يقتل بعضهم بعضاً، فهذه زوجة تلوم زوجها على مكوثه خارج المنزل فى عمله الساعات الطوال تاركاً لها وحدها عبء المنزل وتربية الأولاد وتدبير شؤونهم، وتلك تلوم زوجها على قلة دخله وتعيره بجارتها التى اشترى لها زوجها سيارة وبعض أساور الذهب، وأخرى أمسكت بتلابيب زوجها لأنها علمت من أولاد الحلال أنه تزوج عليها، أما تلك التى فى آخر العربة فإنها تبكى بحرقة لأن زوجها أنفق " تحويشة العمر " على الكيف والمخدرات، وأهلك صحته، وهي لا تملك الآن نفقات علاجه ولا نفقات معيشتها هي وأولادها، وعائلتان يكادان يقتلان بعضهما البعض لأن الزوج طلق زوجته ويماطل فى إعطائها حقوقها ونفقتها ... وهكذا وجد الشيخ نفسه فى غابة من المشكلات الاجتماعية التى لا حصر لها، وأخذ يدور ببصره يمنة ويسرة لعله يجد بيتاً هادئاً يحاول الجلوس عنده فلم يجد، وقال فى نفسه: " لابد أنهم سيكونون مثل الذين من قبلهم، فكل قد شغل بنفسه ومشكلاته، وليس أمامى سوى العربة الأخيرة لعل الفرج يأتينى منها ".

ذهب الشيخ إلى العربة السادسة فوجد فيها أسرة هادئة؛ أب يلاعب أولاده، وأم ترتاح قليلاً، ورجل كبير السن يبدو أنه جد الأولاد يقرأ فى مصحفه، فتشجع الشيخ الوقور وذهب إلى الأب وقال له: "هل تسمح لى بالجلوس بجواركم حتى يصل القطار إلى محطته الأخيرة، فقد تعبت كثيراً ولم أجد مكاناً لى فى كل القطار"... وقف الأب من فوره وقال: "طبعاً بكل سرور"، وأفسح المجال له فوضع أحد الأولاد على رجليه، وطلب من ابنته الكبرى أن تأخذ الحقيبة وتضعها على الأرض بجوار كرسى أمها، وبذا اتسع المكان للجميع.
جلس الشيخ أخيراً، وسرعان ما أخذ يلاعب الصغار ويحكى لهم القصص المثيرة والأمجاد العظيمة والبطولات الفريدة، ويسامر الأب، ويناقش الجد فيما يتلوه من قرآن. وهنا استيقظت الأم وأخذت تستمع إلى الشيخ بحديثه الممتع ولفتاته الجميلة، ومضى الوقت سريعاً جداً، أسرع مما توقع الجميع ووصل القطار إلى المحطة الأخيرة.

فتحت أبواب القطار، وما أن هم الركاب في النزول حتى فوجئوا بما لم يتوقعه أحد ... ملك البلاد فى حاشية ضخمة ينتظر الشيخ المهيب، وما أن رآه حتى احتصنه بحب وشغف شديد واستقبله استقبالاً خاصا جداً لا يستقبله لأى من ضيوفه. أراد الملك أن يتحرك بالشيخ إلى أفخم قصوره لكى ينزل ضيفا عليه فيه، ولكن الشيخ أصر على أن يأخذ معه تلك الأسرة الكريمة التى استضافته فى القطار، فقال له الملك: "على الرحب والسعة، ضيوفك ضيوفنا وإكرامهم واجبنا." فرح الأولاد وأمهم فرحاً شديداً، وعلت وجه الجد ابتسامة رضا عظيمة، ووقف الأب مذهولاً من السعادة والفرحة والاندهاش، وجاء الخدم والحشم يحملون الحقائب ويتوجهون بها إلى أفخم قصور الملك، ليعيشوا في ضيافة ملكية كريمة، لم يكن يحلم بجزء منها أي منهم من قبل.

وفى وسط هذا المشهد المهيب السعيد، وقف كل ركاب القطار فى حالة من الذهول من شدة حزنهم على ما فاتهم من خير وعظمة وفخامة وجمال الضيافة الملكية، وأخذوا يتلاومون ويشيرون بأصابعهم إلى شخوصهم التى تسببت فى فوات هذا التكريم، وأخذوا يعضون أصابعهم من الندم ولسان حالهم يقول: ياليتنا أجلسنا الشيخ معنا وفزنا بهذا النعيم، ولكن هيهات، فقد ذهب الشيخ ووصل القطار إلى محطته النهائية.
انتهت القصة وبقيت منها العبرة، فتأمل معي مرة أخرى قصة القطار...
* سمعت هذه القصة من أحد الشيوخ فى موعظته فى استراحة صلاة التراويح بأحد مساجد القاهرة فى رمضان 1429هـ وقمت بإعادة صياغتها هنا

الأحد، 29 يونيو 2008

رسائل قصيرة 1*

* هذه مجموعة خواطر منثورة وأشعار مبثوثة عبر أوراقي ودفاتري، كتبت ما بين أعوام 1981و 2008

- إن من يحب يجب أن يتعلم كيف يسامح

ويعفو لا كيف ينسى.

- الكتاب هو الصديق الذي لا يخونك، ولا

يطعنك في ظهرك، ولا يمل منك حتى تمل

أنت منه.

- الحياة بحر متلاطم الأمواج، من تعلم

السباحة فيه نجا، ومن تكاسل أوتكابر أوتجاهل هوى.

- إذا أردت أن تعرف عيوبك، فاسأل عدوك،

فإنه أدرى بها منك، وأجرأ في قولها من

صديقك.

- أسهل شيء على الإنسان أن ينتقد الآخرين

ويستكشف عيوبهم، وأصعب شيء عليه أن

ينقده الآخرون ويتقبل نقدهم بنفس كبيرة

سوية، ثم يتدارك خطؤه قبل أن يستفحل أو

يستفحش.

- كلما ضاقت عليك الدنيا بما رحبت، إلجأ إلى

الصدر الحنون أبداً، وكلما أغلقت بوجهك

الأبواب، إلجأ إلى الباب الذي لا ينغلق أبداً،

وما الصدر الحنون إلا كتاب الله عز وجل،

وما الباب الذي لا يغلق إلا باب الله الرحمن

الرحيم.

- أحبك عندما تحبينني كبشر، وأشعر باليأس

منك عندما تحبينني ملاكاً طاهراً، لأني أبداً

لم أكن، وأبداً لن أكون.

- قلوب الكبار هي التي تسامح عند قدرتها

على الانتقام، أما قلوب الصغار فهي التي

تنتقم رغم قدرتها على التسامح.

- عندما أرى الشمس تشرق في الصباح،

وأرى نورها يبسط يديه رابتاً على أكتاف

الحياة، أشعر أن الخير آت... ألا ترى أن

الظلام دائماً يعقبه نور الصباح؟!

- لا تلمني يا صديقي إن لم أجارك، فإن لي

نفساً تسمو فوق دنيء الخَـلق والخُـلق.

الخميس، 12 يونيو 2008

دموع على خد القمر

كان وجهها مضيئاً كالقمر في ليلة بدره، وكان وجهها المضيء ترتسمه قسمات حزن ممزوج بألم مكتوم، وكانت رغمه تبتسم لنا، تحاول أن تخبيء أحزانها عن عيوننا، تحاول أن تداري آلامها عن قلوبنا، تحاول أن تبث في نفوسنا الأمل وترفع عن صدورنا الحزن، ولكن ... هيهات هيهات، فقد كشفتها دمعة صغيرة فرت من عينيها دوناً عنها، ولم تستطع أن تخبئها أو تداريها عن عيوننا التي ترقبها في صمت مهيب... وبسرعة حاولت أن تمسح آثار دمعتها الشقية تعاود الابتسام لنا، ترسل نظرة حب تطمئن بها قلوبنا ... إنها بخير... إنها متماسكة... إنها مؤمنة وصابرة وراضية... ليت من أبكوها يسمعون أنينها الصامت ودعائها الخاشع، ليتهم يفهمون الحقائق كما هي، ويكفون أيديهم عن الوقوع في دوائر الظالمين، ويسترون أنفسهم بدروع محصنة كي لا تصيبهم دعواتها ودعوات كل المظلومين والمقهورين... ليتهم وليتهم وليتهم ... يكفكفون الدمع عن وجه القمر...

أشارت زوجتي إلى منظر القمر البديع وقالت: انظر إلى هذه اللوحة الرائعة ... إنها لوحة تأخذ القلوب بجمالها، ولكن يا حسرتاه ... إنها لوحة حزينة كقلوبنا السجينة... نظرت إلى القمر في روعته وجماله، وأخذتني أنواره بدهشة الانبهار، ولكني لاحظت - كزوجتي - حزن الانكسار، وألم قاسي قضب جبين القمر، قلت لها نعم إنه حزين، قالت بل وباك ... ألا ترى الدموع على خده؟ ... أعدت النظر من جديد، وتأملت وغبت في صمت طويل...

على صفحة النيل الجميل تأسرك لوحة الغروب... لوحة رائعة الجمال والدلال، لا تراها إلا على شواطىء نيلنا الباكي الحزين ...إنها دمعات حرقة وألم ممزوجة باحمرار الاحتقان، تنساب من شمسنا في غروبها اليومي داخل صفحة النيل الصابر المتألم والغاضب المتأزم، ليمتزج ألم شمسنا بألم نيلنا، فيصرخ القمر لحظة خروجه من شدة الألم، فيبكي حالنا وحاله دموعاً لا تراها إلا في عيوننا ... نيلنا يبكي ... وأرضنا تبكي ... وشمسنا تبكي ... وقمرنا يبكي ... حتى أشجارنا صارت تبكي ... دموعنا جميعاً قد تجمعت ... على خد القمر ...

أنا مثلك يا حبيبتي يعتصرني الألم، تخنقني الدموع، يعتريني الوهن ... أنا مثلك يا حبيبتي قد فقدت الأمل في كل البشر ... وصلنا يا حبيبتي لنهاية المطاف وآخر شوط من أشواط دربنا الطويل ... لا مجال، لا طريق، لا سبيل إلا برحمة من الله وحده، انتهت كل الأهازيج يا حبيبتي، وانكشفت كل الأقنعة يا حبيبتي، ونفدت كل الحيل وانقطعت كل حبال الرجاء ... يا حبيبتي صدقيني؛ ليس لها من دون الله كاشفة، يا حبيبتي صدقيني؛ الله وحده هو الأمل الباقي لنا وفينا، هو الأمل الوحيد في كشف غماتنا وذهاب أحزاننا وتضميد جراحاتنا، هو الأمل الوحيد في تغيير أحوالنا وإصلاح ما بنا وإيقاف كل الدموع المذرفة على وجوهنا ووجه قمرنا وصفحة نيلنا وقرص شمسنا وكل أرضنا ... هو الأمل في بعث جديد و جيل جديد و أمل جديد أراه بعيداً من بين الغيوم الملبدة، خلف جدران الحياة، من وسط الستائر المحرقة، وأكوام التخاذل والانهيار، سيأتي حتماً في يوم ما، وساعة ما، ولحظة ما، قدرها العليم الخبير وأخفاها عنا كي نظل دائماً نلهج بذكره، و نلوذ بجنابه، ونهتف باسمه، ونعمل في هدوء بانتظار القادم الوليد، والفجر الجديد ... فاللهم فرجاً قريباً ومخرجاً، بلطفك الخفي وخفي ألطافك ... يا عالماً بخفايا الأمور والصدور ... آمين

الثلاثاء، 27 مايو 2008

لحظة حب - الأخيرة

إن المعرفة نور ... ومن نور الله يكون كل نور، ولحظة حب أضاءت لى – بنور الله – طريق
المعرفة والفهم ... و فى لحظة حب واحدة اختزل التاريخ كله، وتكور الزمان والمكان أمامى، وفهمت كيف
أن الدنيا لا تساوى همها، وأن الآخرة هي خير لنا بل وأبقى ...
ورأيت النور – نور الله يقذف فى قلبى – فتهيج كل أحاسيسى ومشاعرى وتضطرم الأشواق فى كل ذرات
جسدى، ويجرى الدم عاشقا ملتاها هاتفاً ... الله الله ربى .
هنا فى دنيا الناس، توجد قلوب قد تحجرت؛ منها من أخذ الدين رسوماً جوفاء، ومنها من عبد الله بخوف دون رجاء، ومنها من أظلم قلبه بطغيان المادة أو المعصية سواء، ومنها ومنها ... وهؤلاء، لا يعرفون معانى الحب أو حال المحبين؛ ولكن من رحمة رب العالمين، أن تبقى فى كل زمان ومكان تلك الطائفة المخفية في ظهور، والظاهرة في خفاء ... على الحق ظاهرين، يأخذون من كل شئ أحسنه، ومن كل سبيل أوسطه، ُتعمر قلوبهم بالحب قبل الخوف، وبالعفو قبل الانتقام، و بالرحمة قبل الغضب، و تكون الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، و تمر بهم تلك اللحظات... لحظات الحب القدسى وإشراقاته ... وتتحول من حال يحل ويرتحل إلى مقام دائم ومستقر... أصبو إلي هذه الطائفة، وأسعى إليهم، وأرتقب وصولي إليهم، في يوم ما... ولحظة ما... ومكان ما... بحبل من الله متين وممد من قدسه مكين...
مرت بى تلك اللحظة ... لكنها ليست كباق اللحظات ... مرت سريعا ومضت لكنها تركت أثراً ومعنى، وحنيناً يئن من وطئة الاغتراب وطول البعاد ... مرت وتركتنى أنادى الحبيب وأضرع إليه مع الإمام السهيلي مناجياً :
يا من يرى ما فى الضمير ويسمع ============= أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها ============= يا من إليه المشتكى و المفزع
يامن خزائن رزقه فى قول كن ============ امنن فإن الخير منك أجمع
مالى سوى فقرى إليك وسيلة ============= فبالافتقار إليك فقرى أدفع
مالى سوى قرعى لبابك حيلة ============= فلئن رددت فأى باب أقرع
ومن الذى أدعو و أهتف باسمه ============= إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لجودك أن تقنط عاصيا ============= الفضل أجزل والمواهب أوسع
ثم الصلاة على النبي وآله ============= خير الأنام ومن به يستشفع
اللهم لا تحرمنى حبك ولا تسلبنى محبتك واجعلنى ممن أحببتهم ورضيت عنهم فى تلك اللحظة ... وفى كل لحظة واجعلها اللهم مقام دائم ومستقر مكين... آمين .

الثلاثاء، 20 مايو 2008

لحظة حب 4

فى تلك اللحظة ... لحظة حب وخضوع، فهمت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: " أرحنا بها يا بلال " كم كنت مرتاحا فى حضرتك ... كم كنت مرتاحا فى سجودى لك ... فى تلك اللحظة الغالية ... لحظة حب. وفى لحظة حب شعرت كم أنت منى قريب، وأحسست بك تسمع كلامى وترى مكانى وتعلم حالى ولا يخفى عليك شيء من أمري، ففاضت عبراتى، وارتعد القلب نشوة وحباً هاتفاً بصوت عميق نابع من عمق الأعماق ... يا حبيبى يا الله ... يا الله يا حبيبى أمد بها الصوت مدا ... فى نغم ساحر، و نداء خاشع، سكن به الجسد، واطمأن به القلب، وهدأت به الجوارح ... فى لحظة قدسية تمنيت لو كانت كل الحياة ... و كل الزمن.

وفى تلك اللحظة... لحظة حب، أحببت السجود لك، أحببته حبا أنسانى طوله فلم أشعر بالزمان لا المكان... على الأرض؛ سجد الجبين، وفى السماء؛ حلقت الروح فى عالم من جمال وروح وريحان، وشعرت بنعمة الإسلام لك، ولذة السجود لك، والقرب منك، والدعاء لك، والمناجاة معك ... مساكين هؤلاء الذى لا يعرفون الاستسلام لك، مساكين هؤلاء الذين لا يتلذذون بالسجود لك ... مساكين هؤلاء الذين يمرغون وجوههم فى التراب لغير وجهك ... مساكين هؤلاء الذين لا يعرفون قيمة الحرية فى الخضوع لك وحدك، و السجود لجلال وجهك وعظيم سلطانك ... لقد شعرت بسجودى هذا أننى أعلى من كل قيود الأرض، حراً من كل جواذبها، وأقوى من كل مفاتنها، وأغنى من كل ملوكها، وأسمى من كل رذائلها، وكيف لا وأنا أسجد لك... وشعرت في سجودي هذا... بطعم غريب عجيب، ونكهة مميزة فريدة لا تستطيع الكلمات لها وصفاً، ... وشعرت أن سجدتي هذي هي سجدة الحرية الحقة التى تنعتق النفس فيها من أغلال الأرض، وقيود الأرض، وأحقاد الأرض، وفتن الأرض، وآلام الأرض، فتحررت نفسى وروحى وعقلى وكل كيانى، وصرت بها مولوداً جديداً، يحي حياة الأحرار، ويرجو موتة الأبرار، هكذا أحسست، وهكذا دندنت مع الشاعر:

لك سعيي.. وفيك غاية حبي *** ونجاوي ضراعتي.. وصلاتي

وسجودي معراج روحي وعقلي *** وانعتاقي.. ولذتي.. وحياتي

فى لحظة حب حرة من ضغط الأرض، وقيد الأرض، وفكر الأرض، وشر الأرض، وظلم الأرض، وقهر الأرض ... تتفتح أزهار، تورق أشجار، وتخضر الأرض التي كانت موغلة فى البعد عن الله ... وتعود البسمة غيبها ظلم الإنسان، فيا نفسي ويا زوجي ويا ولدي ويا كل الناس ... لحظة حب حرة تسرى فى قلوبنا ... تحييها من مواتها، وتبعث فيها من جديد ... حياتها.

الثلاثاء، 13 مايو 2008

لحظة حب 3


فى لحظة حب أحببتك ربى كما لم أحبك من قبل ... فى لحظة حب أحببتك ربى كما لم أحب أحدا من قبل ... فى لحظة حب أحببت بحبك كل من تحب ... فى لحظة حب أحببت بحبك السماء والأرض، أحببت الطيور والزروع والقفار، أحببت الجبال والسهول والوديان، أحببت الأسماك فى بحارها، والمعادن فى أغوارها وكل ما خلقت ... أليسوا جميعا بحبك وحمدك يسبحون؟

فى لحظة حب أحببت دينك الذى ارتضيت، ورسولك الذى بعثت، وكتابك الذى أنزلت، وكيف لا أحبهم ومن أجل سعادتنا كان ما ارتضيت وبعثت وأنزلت؟ أحببتهم حبا جديدا ... حبا كبيرا ... حبا عظيما فوق حب ...

فى لحظة حب أحببت أسماءك الحسنى وصفاتك العلى، تقدست ربى وتعاليت ... أحببتها حب فهم ومعرفة وذوق ... فى لحظة حب أحببت ندائك ومناجاتك بيا حنان يا منان يا ودود يا لطيف، و كيف لا وقد تفضلت و مننت ومن ألطاف جود المعانى وهبت ورزقت وأفضت ... فى لحظة حب عشت في ظلال الدعاء الرقيق الجميل للحبيب –صلى الله عليه وسلم- عيشة جديدة، بمعان جديدة، ودعاء جديد مفعم بالحب من أول حروفه إلى آخر معانيه: "اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك، اللهم ما رزقتني مما أحب، فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب، فاجعله فراغاً لي فيما تحب، اللهم اجعل حبك أحب إلي من أهلي ومالي ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين، واجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم أحيي قلبي بحبك، واجعلني لك كما تحب، اللهم اجعلني أحبك بقلبي كله، وأرضيك بجسدي كله، اللهم اجعل حبي كله لك، وسعيي كله في مرضاتك."

في لحظة حب تفتحت أمامى أبواب رحمات واسعة غامرة فياضة مفعمة بكل معانى الحب ... الحب منك لكل عبادك وكل مخلوقاتك... وبدأت أفهم بعضا من معانى " الرحمن الرحيم " وبعضا من معانى آيات الرحمة في كتابك الكريم، فبرحمتك عشنا، وبرحمتك وفيها نعيش، و رحمتك نرجو أن تتغمدنا، فرحمتك العامة وهب لكل الناس، ورحمتك الخاصه وهب لمن تحب، فاللهم أجعلنا ممن تحب.

فى لحظة حب أحببت طاعتك، وتلذذت بمناجاتك وعبادتك، وعرفت أن من أحبك أطاعك ومن أطاعك أحبك، وفى لحظة حب كرهت معصيتك ... فكيف يعصيك من أحبك؟ بل هل يعصيك ابتداء محب؟

تعصى الله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمرى فى القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع
فى كل يوم يبتديك بنعمة *** منه وأنت لشكر ذاك مضيع

وفى لحظة حب أحببت القرب منك ... أحببت التودد إليك، أحببت مناجاتك وحدى فى جوف الليل أو وضح النهار ... أحببت اعتمادى عليك ... أحببت اعتضادى بك، والارتكان إليك والارتماء على عتباتك ... متبتلا ... متذللا ... متوددا ... متناسيا ما قد أهم .

الخميس، 8 مايو 2008

خالد فتحي



السلام عليكم أصدقائي وقراء مدونتي ألأفاضل،
أستميحكم العذر على قطع سلسلة خواطري "لحظة حب" لأبثكم خاطرة اليوم التي كتبتها بعد صلاة الفجر عن أحد أصدقاء الدراسة. ولنا عودة إن شاء الله مع "لحظة حب 3" يوم الثلاثاء القادم.

خالد فتحي...
عرفته منذ أن كنا في المرحلة الإعدادية من أيام الصبا والدراسة، لكن علاقتي به لم تتوطد إلا في المرحلة الثانوية. كان شاباً فارع الطول قوي البنية يهابه من يراه دون أن يعرفه، ويحبه من يعرفه حتى ولو لم يره. كان مع قوة جسمه قوياً في علمه ولذا كان دائماً في فصل المتفوقين من مدرستنا. ولكن خالداً تميز عن الآخرين بخلق عال وحس مرهف وقلب عصفور نقي. كان منظماً تماماً في حياته ومنضبطاً تماماً مع نفسه والآخرين. تعاهدنا ونحن في الثانوي على حفظ القرآن الكريم، وانشغل المتعاهدون في أعمال كثيرة يمنة ويسرة، ولكن خالداً حافظ على عهده وأتم حفظ كتاب الله وحده حيث تخلفنا جميعاً عن ذلك الشرف والعز.
كان خالداً شديد الاعتزاز بدينه ووطنه وأهله. أذكر عندما كنا نزوره كيف كان يفخر بوالده –أحد أبطال الجيش المصري - ويزهو أمامنا بخوذته العسكرية ونياشينه التي كرم بها.
مرت مرحلة الثانوي بما كان فيها من أحداث، وكان خالد أحد جنودها الأخفياء، وكان مع ذلك من المتفوقين. تخرجنا من جامعاتنا وذهب كل منا لجهته، وعمل خالد في أحد الوظائف المحترمة التي تفانى فيها وأجاد. لم ألتق به منذ ذلك الحين إلا مرة أو مرتين، ولكني كنت أسمع أخباره بين الفينة والأخرى.
كنت في مكتبي أمس عندما حدثني أحد الأصدقاء على الهاتف ليخبرني عن خالد، وعلمت منه أن خالدا لم يتزوج إلا منذ أقل من عام، وأنه رزق قبل أسابيع مضت بأربعة توائم مرة واحدة، ولكنه ما لبث أن رأى أولاده حتى أصيب بمرض عضال في المخ بعد أسبوع من ولادتهم، ولم يمهله القدر إلا أسبوعاً آخر حتى انتقل بعدها إلى عالم أفضل من عالمنا، ورحاب أفسح من ضيق دنيانا، ورحمة أوسع وأرأف به من كل من قصروا معه في حق الصحبة وحق الأخوة مثلنا. انتقل خالد إلى ربه وترك لنا أثراً من آثاره... أربعة زهور تحمل اسمه وتذكرنا به كلما نسيناه. تمالكت نفسي وكتمت حزني حيث كنت في أحد الاجتماعات الدنيوية، ولكني لم أتمالكها وأنا في اجتماع آخر مع ربي في صلاة الفجر، وقلت لنفسي: إن أقل حقوق خالد علي بعد الدعاء له، أن أكتب عنه، لعل أحد القراء الصالحين يدعو له بدعوة مستجابة، ولعل ذلك يشفع لي عند الله تقصيري في حق أخوته.
لا أذكر طوال سني معرفتي به أنه آذى أحداً أو أساء إليه، بل كان نسمة من نسمات الربيع مرت في هدوء وتركت عبيرها في الدنيا.
أحسب أن خالدا من هؤلاء الأتقياء الأخفياء - ولا أزكيه على الله- وأحسبه من أهل الجنة والله حسيبه ومولاه.
اللهم ارحمه رحمة واسعة، وصبر زوجه وأهله، وأنبت ذريته نباتاً حسناً، وألحقنا به في الفردوس الأعلى مع الحبيب المصطفى. آمين