الاثنين، 15 سبتمبر 2008

القطار

القطــــار*
قصة قصيرة

كان شيخا مهيباً جليلاً كبيراً فى سنه ومقامه. أعد عدته لسفره السنوي، فذهب إلى محطة القطار في الموعد المحدد، وحاول الركوب في القطار المزدحم زحاماً شديدًا، وبصعوبة صعد إلى العربة الأولى وأراد أن يجد له مكاناً ليستريح فيه، فوجدها مكتظة بشباب من مختلف الأعمار، كل قد شغلته لعبة ما، فهذا يلعب بهاتفه المحمول، وتلك أمسكت بجهاز الكمبيوتر المحمول واستغرقت فى لعبة ما، وهؤلاء يلعبون بالورق (الكوتشينة)، ومجموعة أخرى تلعب بالنرد (الطاولة)، ومجموعة تضع سماعات "الآى بود" وتتراقص على نغمات مبهمة ... وقف الشيخ حائراً وراجياً أن ينظر إليه أحدهم ويرحم شيخوخته، ولكن أحداً لم يعره اهتماماً فتقدم هو إلى أحدهم وقال: "يا بني، هل لى أن تجلسني معكم حتى يصل القطار إلى محطته الأخيرة؟" فقال له الشاب- دون أن ينظر إليه: " أنا مشغول كما ترى بهذه الجيم " Game" فهى جيم جامده طحن ، ولا أستطيع ترك مكانى"... تركه الشيخ وذهب إلى الفتاة الجالسة في المقعد الأمامي، فقالت مثل ذلك، وهكذا مع كل المجموعات المتناثرة من الشباب.

حزن الشيخ وتركهم وذهب إلى العربة الثانية، فوجد فيها مجموعة من أصحاب الأعمال يبدو عليهم حسن الهيئة والهندام والانشغال الشديد، فهذا منكب على مجموعة من الملفات يقرأها ويكتب ملاحظات على هوامش الصفحات، وذاك منغمس داخل حاسوبه المحمول يجمع ويطرح ويضرب أرقاماً كثيرة على برنامجه المفضل " الإكسيل "، وتلك السيدة أمسكت بآلة حاسبة ومجموعة من الأوراق تحسب أشياء وتكتبها على أوراقها، وهذا يبدو أنه مع شخص أجنبى يحادثه على هاتفه المحمول، والمكالمة ساخنة جداً ... وقف الشيخ حائراً وراجياً أن ينظر أحدهم إليه ويرحم شيخوخته، ولكن مرة أخرى أحداً لم يعره اهتماماً، فاستجمع الشيخ قواه وتقدم إلى أحدهم وقال: " يا سيدي، هل لى أن تجلسنى بجوارك أو تترك لى مكانك وتجلس بجوار أحد زملائك حتى يصل القطار إلى محطته الأخيرة، فأنا كما ترى شيخ كبير؟" لم ينظر الرجل المنهمك فى حاسوبه إلى الشيخ ولكنه أجابه بنفس إجابة الشاب فى العربة السابقة: "أنا كما ترى مشغول جداً ولا أستطيع ترك مكانى، آسف ياعم الشيخ "بيزنس إز تاف" ولا يوجد شيء يأتي بالساهل."

حزن الشيخ ولكنه لم يفقد الأمل، حاول مع غيره وغيره، ولكن كانت إجاباتهم كلها واحدة، فتركهم الشيخ وقد ازداد كمده وحزنه وذهب إلى العربة الثالثة، فوجد فيها مجموعة من الموظفين والعمال يتجاذبون أطراف الحديث – الذى ظنه الشيخ صريخاً أو عراكاً، ولكنه اكتشف بعد ذلك أنه مجرد حوار عن هموم الحياة، فهذا يشكو دخول شهر رمضان مع المدراس مع العيد أى ثلاث خبطات فى الرأس مرة واحدة، وتلك تشكو مشاكل الخبز والطوابير الطويلة والزحام على المخابز، وذاك يتكلم بأسى وحزن عميق على العبَارة التى غرقت وغرق معها المئات ورغم ذلك برأت المحكمة صاحبها، وآخر يتكلم عن أكياس الدم الفاسد والتى أخذ فيها صاحبها أيضا حكماً بالبراءة، ومجموعة أخرى تتناقش وتفسر وتفتي في قانون المرور الجديد وأزمة الزحام القاتل فى شوارع القاهرة، وغيرهم يتحدثون عن غلاء المعيشة وشظف العيش وأزمة الإسكان ... أحس الشيخ بالدوار من كثرة المشكلات وتعقيداتها وأراد أن يجلس ليستريح، فذهب إلى أحدهم وقد توسم فيه خيراً طالباً الجلوس، ولكنه فوجىء برده الذى ذكّره بالردود السابقة التى سمعها : "نحن مشغولون ومطحونون كما ترى ولا أحد يستطيع أن يترك مكانه بعد أن حصل عليه بشق الأنفس لا لك ولا لغيرك ..."

حزن الشيخ مرة أخرى وشعر بغصة في حلقه، فلا أحد يراعي شيخوخته ولا أحد يراعي مهابته وعلو مقامه، فتركهم وذهب إلى العربة الرابعة، فوجد فيها أزواجاً حديثى عهد بزواجهم يخططون لحياتهم ويبنون آمالهم على أحلامهم ويعيشون واقعهم بأحلام آمالهم، وهنا حاول الشيخ لفت أنظارهم إلى واقع آخر لم يكترثوا له، وهو وجوده بينهم ، ولكن أحداً لم يعره اهتماماً، فقال لزوجين منهم: هلا أجلستمونى هنا حتى يصل القطار إلى محطته النهائية ولن أثقل عليكما، فرد عليه الزوج: "نأسف يامولانا فنحن مشغولون كما ترى بمستقبلنا وآحلامنا فيه، كما أننا نريد أن نستمتع بوقتنا معاً فنحن كما ترى عرسان جدد"، و حاول الشيخ مع الأزواج الآخرين ولكن حدث نفس الشىء معهم جميعاً...

تركهم الشيخ حزيناً مشفقاً على حالهم، وذهب إلى العربة الخامسة، فوجد فيها أزواج وزوجات، وأسر وعائلات، يتلاومون ويتعاركون ويكاد يقتل بعضهم بعضاً، فهذه زوجة تلوم زوجها على مكوثه خارج المنزل فى عمله الساعات الطوال تاركاً لها وحدها عبء المنزل وتربية الأولاد وتدبير شؤونهم، وتلك تلوم زوجها على قلة دخله وتعيره بجارتها التى اشترى لها زوجها سيارة وبعض أساور الذهب، وأخرى أمسكت بتلابيب زوجها لأنها علمت من أولاد الحلال أنه تزوج عليها، أما تلك التى فى آخر العربة فإنها تبكى بحرقة لأن زوجها أنفق " تحويشة العمر " على الكيف والمخدرات، وأهلك صحته، وهي لا تملك الآن نفقات علاجه ولا نفقات معيشتها هي وأولادها، وعائلتان يكادان يقتلان بعضهما البعض لأن الزوج طلق زوجته ويماطل فى إعطائها حقوقها ونفقتها ... وهكذا وجد الشيخ نفسه فى غابة من المشكلات الاجتماعية التى لا حصر لها، وأخذ يدور ببصره يمنة ويسرة لعله يجد بيتاً هادئاً يحاول الجلوس عنده فلم يجد، وقال فى نفسه: " لابد أنهم سيكونون مثل الذين من قبلهم، فكل قد شغل بنفسه ومشكلاته، وليس أمامى سوى العربة الأخيرة لعل الفرج يأتينى منها ".

ذهب الشيخ إلى العربة السادسة فوجد فيها أسرة هادئة؛ أب يلاعب أولاده، وأم ترتاح قليلاً، ورجل كبير السن يبدو أنه جد الأولاد يقرأ فى مصحفه، فتشجع الشيخ الوقور وذهب إلى الأب وقال له: "هل تسمح لى بالجلوس بجواركم حتى يصل القطار إلى محطته الأخيرة، فقد تعبت كثيراً ولم أجد مكاناً لى فى كل القطار"... وقف الأب من فوره وقال: "طبعاً بكل سرور"، وأفسح المجال له فوضع أحد الأولاد على رجليه، وطلب من ابنته الكبرى أن تأخذ الحقيبة وتضعها على الأرض بجوار كرسى أمها، وبذا اتسع المكان للجميع.
جلس الشيخ أخيراً، وسرعان ما أخذ يلاعب الصغار ويحكى لهم القصص المثيرة والأمجاد العظيمة والبطولات الفريدة، ويسامر الأب، ويناقش الجد فيما يتلوه من قرآن. وهنا استيقظت الأم وأخذت تستمع إلى الشيخ بحديثه الممتع ولفتاته الجميلة، ومضى الوقت سريعاً جداً، أسرع مما توقع الجميع ووصل القطار إلى المحطة الأخيرة.

فتحت أبواب القطار، وما أن هم الركاب في النزول حتى فوجئوا بما لم يتوقعه أحد ... ملك البلاد فى حاشية ضخمة ينتظر الشيخ المهيب، وما أن رآه حتى احتصنه بحب وشغف شديد واستقبله استقبالاً خاصا جداً لا يستقبله لأى من ضيوفه. أراد الملك أن يتحرك بالشيخ إلى أفخم قصوره لكى ينزل ضيفا عليه فيه، ولكن الشيخ أصر على أن يأخذ معه تلك الأسرة الكريمة التى استضافته فى القطار، فقال له الملك: "على الرحب والسعة، ضيوفك ضيوفنا وإكرامهم واجبنا." فرح الأولاد وأمهم فرحاً شديداً، وعلت وجه الجد ابتسامة رضا عظيمة، ووقف الأب مذهولاً من السعادة والفرحة والاندهاش، وجاء الخدم والحشم يحملون الحقائب ويتوجهون بها إلى أفخم قصور الملك، ليعيشوا في ضيافة ملكية كريمة، لم يكن يحلم بجزء منها أي منهم من قبل.

وفى وسط هذا المشهد المهيب السعيد، وقف كل ركاب القطار فى حالة من الذهول من شدة حزنهم على ما فاتهم من خير وعظمة وفخامة وجمال الضيافة الملكية، وأخذوا يتلاومون ويشيرون بأصابعهم إلى شخوصهم التى تسببت فى فوات هذا التكريم، وأخذوا يعضون أصابعهم من الندم ولسان حالهم يقول: ياليتنا أجلسنا الشيخ معنا وفزنا بهذا النعيم، ولكن هيهات، فقد ذهب الشيخ ووصل القطار إلى محطته النهائية.
انتهت القصة وبقيت منها العبرة، فتأمل معي مرة أخرى قصة القطار...
* سمعت هذه القصة من أحد الشيوخ فى موعظته فى استراحة صلاة التراويح بأحد مساجد القاهرة فى رمضان 1429هـ وقمت بإعادة صياغتها هنا